على مدى عقود من الزمن لم يكن أهالي القرى المحيطة بضريح أبو الجوزي في قضاء أبي الخصيب يعرفون على وجه الدقة هوية الشخص المدفون بالقرب من بيوتهم وبساتينهم، لكنهم تآلفوا مع الضريح الذي أصبح بمرور الزمن جزءاً أصيلاً من بيئة المنطقة، وقد عز على بعضهم في غضون الأعوام القليلة الماضية مشاهدة الضريح وهو يتهدم من جراء قدمه وكثرة اصطدام السيارات به نتيجة وقوعه عند حافة الطريق، فأخذ أحد المواطنين على عاتقه ترميم الضريح على نفقته الخاصة وبإلحاح من ولده البالغ من العمر ست سنوات.
السومرية نيوز/ البصرة
على مدى عقود من الزمن لم يكن أهالي القرى المحيطة بضريح أبو الجوزي في قضاء أبي الخصيب يعرفون على وجه الدقة هوية الشخص المدفون بالقرب من بيوتهم وبساتينهم، لكنهم تآلفوا مع الضريح الذي أصبح بمرور الزمن جزءاً أصيلاً من بيئة المنطقة، وقد عز على بعضهم في غضون الأعوام القليلة الماضية مشاهدة الضريح وهو يتهدم من جراء قدمه وكثرة اصطدام السيارات به نتيجة وقوعه عند حافة الطريق، فأخذ أحد المواطنين على عاتقه ترميم الضريح على نفقته الخاصة وبإلحاح من ولده البالغ من العمر ست سنوات.
ويقول المواطن أبو عيسى الذي يعمل سائق سيارة أجرة في حديث لـ السومرية نيوز، إن "ولدي عيسى التلميذ في الصف الأول الابتدائي استفسر أكثر من مرة عن أسباب تهدم الضريح القريب من بيتنا وعدم اعماره، وأبدى استغرابه من عدم ترميم الضريح، وطلب مني اعماره لانه يعتقد أن الرجل المدفون في ذلك المكان هو جارنا، وان من واجبنا احترام واكرام الجار"، مبينا أن "إلحاح ولدي اضطرني الى قطع وعد له بترميم الضريح عندما يتوفر لدي المال الكافي، وقبل ثلاثة أسابيع أوفيت بوعدي وباشرت بمفردي بترميم الضريح وسط تشجيع أهالي المنطقة الذين أبدوا استعدادهم للمساهمة وتقديم الدعم".
ويشير أبو عيسى الذي رفض الافصاح عن اسمه أو تحديد المبلغ الذي أنفقه على ترميم الضريح أو حتى إلتقاط صورة له الى أن "عملية الترميم تطلبت شراء كميات من الطابوق والاسمنت وحديد التسليح، ومن المتوقع أن ينجز العمل بعد اسبوع أو اسبوعين"، معتبرا أن "ضريح أبو الجوزي سيكون أفضل مما كان عليه عند ترميمه آخر مرة قبل أكثر من أربعين عاماً".
ويلفت أبو عيسى الى أن "أكثر ما يقلقني هو احتمال تدخل مفتشية الآثار والتراث أو مديرية البلديات وإيقاف المشروع قبل انجازه"، موضحا أن "الجهات الحكومية طالما امتنعت عن ترميم الضريح وجعلته نهباً للاهمال والإندثار فعليها أن لا تعترض على جهدي التطوعي الذي أقوم به في سبيل التقرب الى الله وإرضاء ولدي".
بدوره، يقول المواطن علي محمد، وهو أحد سكان البيوت المجاورة للضريح، إن "الضريح كان على وشك الإنهيار عندما تدخل جارنا أبو عيسى وقام باعماره، كما ان أجزاء من الضريح تهدمت من جراء حوادث مرورية تكررت في الآونة الأخيرة، وذلك لأن الضريح يقع عند حافة الطريق، ولا يوجد رصيف يفصل بينه وبين الطريق الذي تسلكه يومياً آلاف السيارات"، مبينا أن "الضريح يقع ضمن مقبرة قديمة مندثرة تضم ضحايا وباء الطاعون الذي اجتاح البصرة قبل ثلاثة قرون، بحيث كثيراً ما يتم العثور على رفات وبقايا عظام بشرية عند الحفر في المنطقة".
وبحسب الباحث التأريخي والتدريسي في جامعة البصرة عادل هاشم فإن "أبو الجوزي المدفون في قضاء أبي الخصيب هو ليس ابن الجوزي الحنبلي أو ابن الجوزي الجعفري"، وأضاف في حديث لـ السومرية نيوز، أن "الضريح غير مسجل لدى هيئة الآثار والتراث، وهو يعود الى مديرية الوقف السني، ولا تتوفر عن أبو الجوزي معلومات كثيرة، ومن خلال قاعدة الضريح ذات الشكل المربع يمكننا الاستنتاج انه مبني وفق الطراز العثماني".
من جانبه، يقول الشاعر طالب عبد العزيز الذي يسكن منطقة مجاورة للمنطقة التي يقع فيها الضريح إن "المكان كان مزاراً دينياً، لكنه لم يعد كذلك منذ أكثر من أربعين عاماً، وعلى ما يبدو فإن المدفون هناك هو رجل دين متصوف يدعى محمد أبو الجوزي"، مشيرا الى أن "مبادرة المواطن أبو عيسى لاقت استحسان واعجاب أهالي المنطقة، وهي جاءت نتيجة فشل المؤسسات المعنية في الحفاظ على الضريح الذي ينطوي على قيمة تأريخية".
وأكد عبد العزيز لـ السومرية نيوز، أن "لو كل مواطن حاول بجهد ذاتي أن يصلح شيئاً بالقرب من بيته أو في منطقته كما فعل أبو عيسى لأصبحت البصرة أفضل بكثير عما هي عليه في المرحلة الحالية"، لافتا الى أن "مثل هكذا مبادرات فردية تعد نادرة على المستوى المحلي، لكنها شائعة في الدول الأوربية".
ويعد ضريح أبو الجوزي الواقع عند بداية الحدود الإدارية لقضاء أبي الخصيب من جهة مدينة البصرة، أحد المعالم الأثرية في المحافظة بالرغم من الغموض الذي يكتنف هوية صاحب الضريح، لكن معظم آراء الباحثين تفيد بأنه أحد رجال الدين المتصوفين، وهذا ما أكده الشيخ عبد القادر باش أعيان العباسي ضمن الجزء الأول من كتابه (موسوعة البصرة)، وكذلك فعل الشيخ محمد بن خليفة بن حمد النبهاني في كتابه (التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية)، ويعتقد الباحث التاريخي هاشم محمد علي العزام أن "أصل كنية أبو الجوزي جاءت على الأرجح نتيجة جلب الناس للجوز معهم عند زيارة مرقده كنوع من النذور".
يذكر أن الضريح المصنف كمعلم أثري مشيد وفق الطراز العثماني، وهو يتكون من قبرين متجاورين وقبتين متلاصقتين، القبة الأولى بصلية الشكل ويقع أسفلها قبر أبو الجوزي، والقبة الثانية تهدمت خلال الثمانينات، وتحتها يوجد قبر زوجته أو خادمته.
وقد تعرض ضريح أبو الجوزي الى أضرار كبيرة في غضون الأعوام القليلة الماضية نتيجة وجوده عند حافة الطريق الواصل بين مدينة البصرة وقضاء أبي الخصيب، بحيث يبعد المرقد أقل من متر عن الطريق، ويعرف ذلك الطريق بكثرة ما فيه من تعرجات وانعطافات منذ انشائه قديماً، ولعل قصة شق الطريق بهذه الطريقة الغريبة تكشف ضمناً عن جذور ظاهرة الفساد عند تنفيذ المشاريع في العراق، إذ يفيد الأديب والإعلامي إحسان وفيق السامرائي في كتابه (لوحات من البصرة) الصادر قبل عامين بأن "طريق أبي الخصيب لم يكتسب مساره المثير إلا عندما تم تكليف أحد المهندسين الهنود بالاشراف على شق الطريق، ولأن الرجل كان مرتشياً فقد أجزل له أصحاب البساتين العطاء، وهو راح يحرف مسار الطريق ليجعله يبتعد عن حدود بساتينهم، وبالنتيجة أوجدت الرشاوى التي تقاضاها المهندس الهندي الفاسد أجمل طريق!".