تتعرض العملة الاحتياطية العالمية لضغوط شديدة، لكن الأسواق ربما لا تزال تُقيّم هذا التهديد بأقل من قيمته الحقيقية، وهذا ما صرّح به خبراء الذين يحذرون من أن هيمنة الدولار "تتراجع بشكل كبير"في
أسعار العملات مباشر حيث أثارت سياسات ترامب الجمركية المتقلبة أجواءً من عدم اليقين، والتي تُلقي بثقلها الآن على ثقة المستثمرين في الأسهم والسندات الأمريكية والدولار.
قال كبير الاقتصاديين في جولدمان ساكس "يان هاتزيوس" أن هناك تحول نحو هيمنة العملات المتعددة الأخري مع تخلي المستثمرين عن الأصول الأمريكية وتزايد خطر الركود وتراكم الديون الحكومية، وتوقع البنك الاستثماري خلال الأشهر الـ 12 المقبلة أن ينخفض الدولار بنسبة 10% مقابل اليورو و 9% مقابل الين الياباني.
يُمثل هذا تحولاً جذرياً للدولار الأمريكي، الذي توقع المحللون أنه سيُحقق أداءً قوياً في عام 2025، في يناير توقع محللون في جي بي مورغان أن قوة الدولار "ستستقر أو تستمر حتى نهاية عام 2025" مع نمو اقتصادي قوي وتوجه الرسوم الجمركية نحو الارتفاع، ومع ذلك، تأثرت الأسواق بشدة بالعدوان الذي انتهجه البيت الأبيض في سياسته التجارية، فبدلاً من دعم الدولار، قوضت الرسوم الجمركية التي فاقت التوقعات قيمته.
ولكن، على الرغم من الانخفاض المُطرد منذ الألفية، لا يزال الدولار الأمريكي يُشكل حوالي 57% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، ويُمثل ما يقرب من 90% من جميع المعاملات الخارجية، ومع ذلك، فبينما يتمتع الدولار الأمريكي بمكانة قوية إلا أنه ليس بمنأى عن الهزيمة، إن التحدي الذي يواجه الدولار حقيقي، ومع ارتياح البيت الأبيض لانخفاض قيمته يبدو أن تدهورًا ممتدًا في سعره مرجحًا.
هل يريد ترامب خفض قيمة الدولار؟
هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن الرئيس ترامب سعيدٌ جدًا بخفض قيمة الدولار، لطالما جادل الرئيس بأن الدولار الأمريكي قويٌّ جدًا مما يعيق صادرات السلع والخدمات الأمريكية، في يوليو 2024 عندما كاد مؤشر الدولار الأمريكي أن يلامس 106 نقطة قال الرئيس إن قوة الدولار تُشكّل "عبئًا هائلًا".
يُمثّل الدولار الأمريكي القوي عائقًا أمام طموح الرئيس ترامب لإنعاش
الصناعة التحويلية الأمريكية، فهو يجعل الصادرات أكثر تكلفة والواردات أقل تكلفة مما يُسهم في إدامة العجز التجاري، وبينما يُعلن مسؤولو البيت الأبيض دعمهم لسياسة الدولار القوي، فإن الواقع هو أن إدارة ترامب تبذل قصارى جهدها على ما يبدو لإحداث انخفاض في قيمته.
ومما يزيد من تعقيد الصورة بعض الشيء، أن الرئيس ترامب حذّر مرارًا وتكرارًا من يُحاولون تحدي وضع الدولار كعملة احتياطية، مُهددًا إياهم بفرض رسوم جمركية ضخمة وعقوبات اقتصادية.
وفي شهر مايو صعّد الرئيس ترامب خلافه الطويل مع رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي "جيروم باول"، حيث يريد الرئيس من الاحتياطي الفيدرالي خفض أسعار الفائدة بشكل أكبر وأسرع، مما سيساعد على تحفيز النمو الاقتصادي مع زيادة خطر التضخم وإضعاف جاذبية الدولار، في حين أن السياسة النقدية الأمريكية مستقلة عن السلطة الإدارية، فإن منبر الرئيس المتشدد قادر على التأثير وإعطاء الأسواق إشارة إلى الاتجاه.
ينتهج الرئيس ترامب سياسات من شأنها أن تزيد من التضخم وبالتالي تخفض قيمة الدولار، تشمل هذه السياسات فرض قيود صارمة على الهجرة، مع التركيز على العمالة غير الماهرة الأرخص، بالإضافة إلى فرض تعريفات جمركية تستهدف بشكل كبير الواردات الرخيصة.
علاوة على ذلك، يبدو الرئيس ترامب متساهلاً مع الأصل الذي يدعم الدولار الأمريكي وهو الثقة، حيث يفرض الرئيس رسومًا جمركية على الأصدقاء والأعداء في انتهاكٍ واضحٍ للاتفاقيات التجارية القائمة بلا مبالاة، وقد أبدت إدارته قلقها حيال ذلك.
وبينما يوجّه البيت الأبيض رسائل متضاربة بشأن سياسته تجاه الدولار، تبدو أفعاله مُركّزة على هدف واحد وهو ضعف الدولار الذي يتماشي مع أهداف إدارة ترامب في التجارة والصناعة.
هل سيحل الدولار الأمريكي محل العملة الاحتياطية العالمية؟
على الرغم من الضغوط التي يتعرض لها الدولار الأمريكي إلا أن مكانته كعملة احتياطية عالمية لا تزال راسخة، فلا يزال الدولار الأمريكي يُمثل غالبية احتياطيات النقد الأجنبي للبنوك المركزية ويُستخدم في ما يقرب من 90% من المعاملات الخارجية.
ومع ذلك، تشهد مكانة الدولار الأمريكي تراجعًا مطردًا منذ مطلع الألفية، حين كان يُمثل أكثر من 70% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي للبنوك المركزية، لينتقل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية (عالم القوة أحادية القطب والهيمنة الأمريكية) إلى عالم متعدد الأقطاب، تسعى فيه القوى المتنافسة بنشاط إلى التخلي عن الدولرة.
وقد ساهم في تآكل قوة الدولار الأمريكي العقوبات الأمريكية الصارمة، حيث تسعى القوى المتنافسة إلى التخلص من العملة لتقليل تعرضها للقوة الناعمة الأمريكية، ومؤخرًا تراجع الثقة في أمريكا بشكل كبير.
ومع ذلك، في حين أن رسوم ترامب الجمركية قد تُلحق المزيد من الضرر بالدولار، فلا يوجد منافس واضح ليحل محله كعملة احتياطية عالمية، فاليوان الصيني رهينة حظوظ بنك الشعب الصيني الخاضع لسيطرة الشيوعيين، ووُصف الروبل الروسي بأنه "أسوأ عملة أداءً في العالم".
إن نقص العملات البديلة الموثوقة يعني أن المستثمرين ليس لديهم الكثير من الخيارات، ولكن على المدي البعيد ستخسر الولايات المتحدة عملتها الاحتياطية عندما يكون هناك من يأخذها، وفي الوقت الحالي لا يوجد بديل.
ينتشر هذا الرأي على نطاق واسع بين المحللين، الذين يرون أن مكانة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية مضمونة على المديين المتوسط والطويل، ومع ذلك، من المتوقع أن يواصل الدولار انخفاضه المطرد في المستقبل مع تنويع البنوك المركزية لاحتياطياتها عبر سلة من العملات.
ما لم تحدث أحداث غير متوقعة، سيكون هذا الانخفاض تدريجيًا وبطيئًا، ووصف الخبراء هذه العملية بأنها "تحول مطرد ولكنه بعيد المدى"، فهيمنة الدولار لن تتلاشى بين عشية وضحاها، لكن عصر هيمنته المطلقة آخذ في التلاشي، وهذا يحمل عواقب وخيمة على المحافظ الاستثمارية العالمية والتسعير وتخصيص رأس المال.