وإليكم في هذا التقرير، أهم الأفلام الوثائقية لهذا العام التي لم تكتف برصد الواقع، بل حرصت على أن تصنع منه تجربة بصرية ووجدانية، تفتح الباب أمام المشاهد للتأمل وإعادة تعريف ذاته في عالم يتقلب بين الفقد والتحول.
العراق: الأسود على ضفاف نهر دجلة
رغم كون الفيلم الوثائقي "الأسود على ضفاف نهر دجلة" (The Lions by the River Tigris) ناطقا بالعربية وعراقي الموضوع والهوية من حيث المكان والشخصيات والهم الإنساني، فإنه إنتاج أوروبي مشترك بين العراق والنرويج وهولندا، وهو ما منحه بعدا عالميا بدون أن يفقد جذوره المحلية.
ويأخذنا الفيلم في رحلة داخل مدينة
الموصل بعد سنوات من الدمار، متتبعا يوميات مجموعة من السكان وهم يحاولون إعادة بناء حياتهم وهويتهم الثقافية على ضفاف نهر دجلة. لا يعتمد الفيلم على السرد السياسي المباشر، بل ينحاز إلى التفاصيل الصغيرة: الذاكرة، الخسارة، الحنين، ومحاولات الترميم التي تتجاوز الحجر إلى أعماق النفس البشرية.
في حين تتداخل الحكايات الفردية لتشكل صورة جماعية عن مدينة تحاول استعادة صوتها بعد أن كاد يمحى، فيتحول المكان إلى بطل خفي، والنهر إلى شاهد على ما جرى وما لا يزال في طور التشكل.
فنيا، تميز الفيلم بالإيقاع البطيء المقصود ولغته البصرية الشاعرية، إذ اعتمد على لقطات طويلة وتأملية للنهر، والبيوت المهدمة، والوجوه الصامتة، وهذا جعل الصورة تتجاوز حدود التوثيق التقليدي. كما وظفت الذاكرة بوصفها عنصرا دراميا محركا للسرد، تتقاطع من خلاله الأزمنة.
وقد حرص صانعو الفيلم على تجنب الخطاب التقريري، تاركين الشخصيات تحكي قصتها بذاتها بدون وساطة تفسيرية، لنصبح أمام عمل لا يكتفي بتوثيق ما بعد الحرب، بل يطرح سؤالا أعمق عن معنى البقاء، وكيف يمكن للإنسان أن يبدأ حياة جديدة في مدينة مثقلة بالغياب.
إيران: اختراق الصخور
يتتبع الفيلم الوثائقي متعدد الجنسيات، "اختراق الصخور" (Cutting Through Rocks) سيرة امرأة إيرانية تدعى "سارة شاهي فردي"، تصبح أول امرأة تنتخب لعضوية مجلس قروي في منطقة ريفية محافظة
شمال غرب إيران.
ولا يكتفي الفيلم برصد الحدث بوصفه سابقة سياسية، بل يغوص في تفاصيل الحياة اليومية لهذه المرأة، كاشفا الصراع المعقد بين السلطة المحلية، والعادات المتجذرة، ومحاولات التغيير البطيئة التي تقودها من داخل المنظومة.
الحبكة هنا غير تقليدية، إذ تتشكل تدريجيا عبر المراقبة الطويلة والصبورة، إذ تتراكم المواقف الصغيرة لتبني صورة أوسع عن معنى المقاومة الهادئة، وعن ثمن أن تكون المرأة صوتا عاما في فضاء لم يهيأ لها.
من جهته، استخدم المخرج لغة بصرية تتجنب الاستعراض واختار تقريب الكاميرا من الشخصيات بدون تعليق صوتي موجه ليبدو السرد صادقا، في حين سمح امتداد التصوير على فترات طويلة برصد التحولات النفسية والاجتماعية لا اللحظات الصادمة فقط.
وقد لاقى العمل صدى واسعا في المهرجانات الدولية باعتباره أحد أبرز الأفلام الوثائقية التي تناولت قضايا المرأة، حتى إنه حصد الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان صندانس السينمائي الدولي.
أميركا: كشف الحقيقة المخفية
من
الولايات المتحدة، يبرز فيلمان وثائقيان، يأتي في مقدمتهما فيلم تيتان:"
كارثة أوشن غيت" (Titan: The OceanGate Disaster)، الذي يتناول واحدة من أكثر الكوارث البحرية إثارة للجدل في
القرن الحادي والعشرين، وهي حادثة انفجار الغواصة السياحية "تيتان" التابعة لشركة أوشن غيت خلال رحلتها إلى حطام سفينة "تايتانيك" في يونيو/حزيران 2023.
أخرج الفيلم مارك مونرو، أحد أبرز صناع الأفلام الوثائقية الاستقصائية في الولايات المتحدة، وركز من خلاله على الساعات الأخيرة التي سبقت الكارثة، إلى جانب الأشهر التي مهدت لها، متتبعا سلسلة القرارات التقنية والإدارية التي قادت الغواصة إلى الانفجار المفاجئ في أعماق المحيط.
ولا يكتفي الوثائقي بسرد تسلسل الأحداث، بل يحول مأساة حديثة
العهد إلى مساحة للتأمل والنقاش، عبر تسليط الضوء على سياسات الشركة، وخياراتها الإدارية، والتحذيرات المتكررة التي أطلقها مهندسون وخبراء وتم تجاهلها، كاشفا عن صراع خفي بين الطموح التجاري ومتطلبات السلامة.
ويعتمد العمل على مزج متقن بين الشهادات الشخصية والمواد الأرشيفية والتسجيلات الصوتية، في بناء درامي مشدود يعزز الإحساس بالتوتر، لتتحول الكارثة من مجرد خبر عاجل إلى سؤال أخلاقي مفتوح حول حدود المغامرة البشرية عندما تنفصل عن العلم والمسؤولية، وحول الخط الفاصل بين التكنولوجيا والربح والإنسان.
وبحسب عدد من النقاد، ينتمي الفيلم إلى فئة الوثائقيات التحذيرية القادرة على تبسيط القضايا التقنية المعقدة دون إخلال بعمقها، مستندا إلى سرد مشوق وتحقيق استقصائي محكم يربط بين الوقائع العلمية والبعد الإنساني، مدعوما بمونتاج متوازن حافظ على الإيقاع المشدود دون الوقوع في الإثارة المفتعلة
أما العمل الثاني من أميركا، فيلم "التغطية/كشف الحقيقة المخفية" (Cover‑Up) الذي قدم ملفا موسعا عن مسيرة الصحفي الاستقصائي "سي مور هيرش" -الحائز على
جائزة "بوليتزر"- والتي امتدت عقودا، كشف خلالها عن جرائم فادحة ارتكبتها مؤسسات أميركية.
من بينها مجزرة ماي لاي في حرب فيتنام، وتعذيب السجناء في سجن
أبو غريب، مرورا ببرامج التجسس السرية لوكالة الاستخبارات المركزية والعديد من الانتهاكات الأخرى. واعتمد الفيلم على مقابلات مع هيرش نفسه، ومواد أرشيفية ومراسلات ووثائق لم تنشر من قبل، ما منحه ثراء معرفيا وعمقا تاريخيا.
ولم يكتف الفيلم بسرد
السيرة الذاتية فقط، بل حول حياة هيرش إلى حالة فنية تعكس صراع البحث عن الحقيقة في مواجهة التضليل الرسمي، عبر بنية متماسكة تجمع بين الذاكرة الشخصية والأحداث التاريخية الكبرى، وبين الصرامة والتناقضات الإنسانية، وهذا رفع الفيلم إلى مستوى السرد السينمائي الراقي.
وعلى الرغم من أن الفيلم لم يفز بأي جوائز كبرى حتى الآن، إلا أنه حقق نسب مشاهدات مرتفعة وأشاد به الجمهور، قبل أن يختاره النقاد ضمن أبرز الوثائقيات لعام 2025.