وبينما تبحث أغلبية الأسر السودانية عن ملاذ آمن للهرب إلى خارج البلاد، تفشل أخرى في مغادرة
الخرطوم الأكثر اشتعالاً إلى ولايات أخرى؛ بسبب الارتفاع الجنوني لأسعار النقل والمواصلات وندرة الوقود.
تواجه بعض العوائل، التي تقيم في منطقة شرق النيل وسط معارك ساخنة، إنها "عاجزة تماماً عن مغادرة الخرطوم إلى شمال
كردفان غربي البلاد".
وتضيف: "في الأصل كنت أعاني وضعا ماديا صعبا قبل بدء الحرب. لدي اثنين من الأبناء تحت سن العشرين توقف والدهما عن التكفل بنا بعد انفصاله عني".
لا شيء يشبه الاستسلام أمام آلة الحرب المدمرة بينما أنت متسمر لا تقوى على الحركة لمنطقة أكثر آمنا بفعل الظروف وسوء الحال
وتروي اخلاص فصول المأساة التي بدأت معها منذ انفصال زوجها عنها بعسر شديد في توفير الاحتياجات اليومية من مآكل ومشرب، وقالت: "أحيانا أعجز عن توفير الأكل لابني. لا أستطيع النظر إلى ابني الصغير وهو يبكي من الجوع".
وتعاني اغلب العوائل، من مواجهة
الموت ونقص الغذاء وانعدام المياه والخدمات الصحية، لا شيء يشبه الاستسلام أمام آلة الحرب المدمرة بينما أنت متسمر لا تقوى على الحركة لمنطقة أكثر آمناً بفعل الظروف وسوء الحال، ليبقى الفرق بينك ونحو مائة ألف غادروا الخرطوم، عدم توفر بضع آلاف من الجنيهات للهرب، لا شيء أسوأ من العجز في مثل هذه الظروف وسط أطفال جياع.
ويروي
أيمن عبد العزيز الذي يقيم بالقرب من شارع
عبيد ختم شرق العاصمة الخرطوم، " سقوط رصاص على خزان المياه بمنزل أسرته، ويقول: "الحادثة أفزعت عائلتي.. في اليوم الثاني من الحادثة قررنا المغادرة إلى الولاية الشمالية التي جئنا منها قبل أيام بعد اشتداد المعارك فيها بين قوات الجيش والدعم السريع حول مطار مروي الذي يقطنون بالقرب منه".
ينحدر في الأصل أغلب سكان العاصمة الخرطوم البالغين نحو 10 ملايين، من ولايات
السودان، لكن بفعل الحرب شهدت الولايات السودانية هجرة عكسية من الخرطوم ريثما تهدأ الأوضاع الأمنية، حيث لم تسجل أغلبية الولايات السودانية توترات أمنية مثلما تشهد الخرطوم هذه الأيام عدا في ولاية غرب
دارفور التي شهدت أحداثا متصاعدة اليوميين الماضيين.
يتمسك الهاربون بالحذر وتخير الطرقات وحسن الحظ للعبور إلى خارج الخرطوم المشتعلة حربا
وفي وقت سابق، تم رصد هجرة الآلاف من الأسر خارج الخرطوم في طريقها إلى ولايات السودان يحملون ما خف وزنه برفقة أطفال وحقائب ملابس صغيرة على سيارات بعضها مخصص لنقل البضائع بحثاً عن الأمن المفقود في أكثر المدن أمنا في وقت سابق.
على الرغم من الخروقات المستمرة للهدن المعلنة بين طرفي النزاع في الخرطوم، تخاطر الأسر السودانية خلالها للهرب وسط هذه الفترات المخصصة للمساعدات الإنسانية وإجلاء المواطنين أنفسهم إلى مناطق أكثر أمنا، حسبما يدعي الطرفان.
في الواقع، أصوات الرصاص الصاخبة والمدافع التي تحدث اهتزازا في الأرض لا تتوقف بإعلان الهدن التي وصل عددها إلى 6 منذ بدء الحرب في
منتصف أبريل/ نيسان الماضي، ويتمسك الهاربون بالحذر وتخير الطرقات وحسن الحظ للعبور إلى خارج الخرطوم المشتعلة حربا.
لكن ليس وحده الرصاص من يعيق الطريق، فالجثث الملقاة على قارعة الطرق، اللصوص وعمليات النهب والسلب الواسعة من الصبية المعروفين بـ "النيقرز" قادرة على فعل ما فشل فيه الرصاص، لا شيء قادر على مسح ذاكرة سكان الخرطوم المحتشدة بالموت وتعدد أسبابه هذه الأيام، حتى أن النعوش فقدت هيبتها المعتادة لديهم.
وحده الهروب الآمن، يعد نجاحا هذه الأيام في الخرطوم، حيث روت أسرة مكونة من 10 أفراد قصة نجاحها في الهروب من وسط آلة الموت عبر خطة استغرقت أياماً لصعوبة أدوات تنفيذها، والتي بدأت بتوفير وقود للسيارة التي في الأصل مخصصة لنقل البضائع والحيوانات في الوصول إلى الولاية الشمالية.
الجثث المتناثرة في الطرقات وسط أكوام من فارغ الرصاص وألسنة اللهب المشتعلة في كل شيء، وأصوات الرصاص والمدافع وهدير الطائرات الحربية التي تظهر وتغيب من بين سحائب الدخان والحرائق في سماء الخرطوم الساخنة.