بحسب معلومات أمنية لبنانية، فإنّ
مخابرات الجيش أوقفت "
أبو عمر" قبل أيام قليلة، عقب طلب رسمي من جهات سعودية إلى الأجهزة
اللبنانية بضرورة توقيف شخص ينتحل صفة رسمية حساسة ويستخدم اسم المملكة في اتصالات سياسية مشبوهة.
"أبو عمر" هو مواطن لبناني من محافظة
عكار، وتحديدًا من منطقة
وادي خالد، وكان يعمل حدّاد سيارات، قبل أن يتحوّل فجأة – عبر الهاتف فقط – إلى "مسؤول خليجي رفيع المستوى". لم يمتلك الرجل قصرًا، ولا موكبًا، ولا أوراقًا رسمية، ولا حتى صورة واحدة تجمعه بأي مسؤول سعودي، لكنّه امتلك ما يكفي لإقناع سياسيين: رقمًا أجنبيًا، لهجة خليجية واثقة، وبعض العبارات الموحية بالنفوذ والقدرة على "فتح الأبواب".
وعود خارج القنوات الرسمية
اعتمد "أبو عمر" في خدعته على تقديم نفسه كحلقة وصل "غير رسمية" مع مرجعيات سعودية عليا، مستخدمًا خطابًا مبنيًا على وعود مؤجّلة ورسائل ضبابية من نوع "التوجيهات ستصل في الوقت المناسب"، أو "الملف قيد المعالجة في
الرياض".
وتشير المعطيات إلى أنّه قدّم وعودًا صريحة بدعم شخصيات سياسية في الانتخابات النيابية، أو مساعدتها للوصول إلى رئاسة الحكومة، أو تأمين غطاء خارجي يعيدها إلى الواجهة السياسية بعد سنوات من التراجع. واستُخدم عامل "الدعم السعودي" كرافعة أساسية للإقناع، خصوصًا في البيئة السنية، حيث لا يزال لهذا العنوان رمزية سياسية مؤثرة.
سياسيون وقعوا في الفخ
المفارقة الصادمة في القضية أن الضحايا لم يكونوا مواطنين بسطاء أو باحثين عن فرصة عمل، بل سياسيين اعتادوا إلقاء الخطب عن السيادة والاستقلال ورفض الوصاية الخارجية. بعضهم دفع أموالًا بسخاء، وبعضهم بنى استراتيجياته وتحالفاته على وعود "أبو عمر"، متصرفًا وكأن مفتاح القرار الإقليمي بات في يده.
وتُظهر الوقائع أن بعض هؤلاء تصرّف بثقة مفرطة، وكأن الدولة ومؤسساتها لم تعد ذات صلة، وأن مكالمة هاتفية كفيلة بتغيير موازين الداخل اللبناني. هكذا، سقطت أقنعة "الحنكة السياسية" واحدة تلو الأخرى، لا بفعل خصم سياسي، بل بسبب وهم صدّقوه لأنّه يناسب طموحاتهم، بحسب ما نقلت وسائل اعلام لبنانية.
التحوّل المفصلي في القضية وقع قبل نحو ثلاثة إلى أربعة أشهر، عندما بدأ بعض المتضررين التواصل مع جهات مطلعة على العلاقات اللبنانية –
السعودية. وفي واقعة وُصفت بالكاشفة، حاول أحدهم الاتصال بـ"أبو عمر" أثناء وجوده برفقة شخصية معروفة تُدعى مصطفى الحسيان، ليرن الهاتف الموجود مع الأخير في اللحظة نفسها، ما أثار شكوكًا جدية دفعت إلى متابعة أمنية دقيقة.
لاحقًا، تردّد الحديث عن تسجيلات صوتية ومواد مصوّرة تتضمن اعترافات منسوبة لـ"أبو عمر" حول انتحاله الصفة، ما عزّز القناعة بأن الأمر يتجاوز مجرد شبهة، ليتحوّل إلى ملف أمني وقضائي متكامل.
ما يجعل قضية "أبو عمر" خطيرة – حديث وسائل الاعلام اللبنانية - ليس حجم الأموال المدفوعة أو عدد الشخصيات المخدوعة فقط، بل كونها تشريحًا قاسيًا للعقل السياسي اللبناني. عقل لا يثق بنفسه، ولا بناسه، ولا بدولته، لكنه يثق فورًا بأي وهم خارجي، ومستعد لتصديق "تفويض" غير موثّق لأنه يخدم طموحه الشخصي.
القضية تكشف أيضًا استعداد بعض السياسيين للتشكيك الضمني بحرفية دولة كبرى في إدارة علاقاتها وملفاتها، فقط لأنهم يريدون تصديق
رواية تمنحهم دورًا أكبر مما تسمح به أحجامهم الشعبية.
لم يكن ملف "أبو عمر" أو ما بات يُعرف بـ"الأمير الوهمي" حادثة عابرة، بل مرآة فاضحة لخلل بنيوي في الحياة السياسية اللبنانية، حيث تُستبدل
الشرعية الشعبية بإيحاءات خارجية ورسائل مشفّرة ودعاية سياسية تقوم على الوهم.
لطالما شهد
لبنان نماذج مشابهة، سياسيون يراهنون على "إشارات" أو "أضواء خضراء" منسوبة إلى عواصم الخارج، ويبنُون عليها نفوذًا داخليًا وخطابًا سياسيًا، قبل أن يتبيّن لاحقًا أن الأساس لم يكن سوى وهم منسوج عبر وسطاء واحتيال سياسي، وفقا للإعلام اللبناني.
أي زعامة؟
انكشاف شبكة "أبو عمر" أعاد طرح سؤال جوهري: كيف تُصنع الزعامة في لبنان؟ وهل ما زال جزء من الطبقة السياسية يعتقد أن الزعامة تُمنَح عبر الهاتف، لا عبر الناس؟
ويقول الاعلام اللبناني: لبنان، بتاريخه وتعدديته، لم يكن يومًا بلد "تفويضات"، بل بلد توازنات دقيقة. زعاماته الحقيقية
نشأت من الأرض، من الشارع، ومن العمل السياسي العلني، لا من مكالمات مجهولة ورسائل مبهمة.
بحسب مصادر سياسية لبنانية مواكبة للملف، فإن المسار القانوني سيفرض في الحد الأدنى دعاوى نصب واحتيال وانتحال صفة بحق "أبو عمر" وشركائه، مع تشديد على أن التحقيقات قد تكشف أسماء أطراف إضافية تورطت أو استفادت من الشبكة.
وتؤكد المصادر أن الملف لن يُطوى بسهولة، نظرًا لحساسيته ولأن المتضررين هم من أصحاب الشأن العام، ولأن ما جرى يمس بصورة الدولة وعلاقاتها الخارجية، ويمثل فضيحة سياسية بكل المقاييس.
ما سقط في قضية "أبو عمر" ليس شخصًا فحسب – بحسب مراقبين لبنانيين – بل وهمٌ كامل من أوهام السياسة اللبنانية. ومع سقوط "الأمير الوهمي"، تعود الحقيقة البسيطة لتفرض نفسها: في لبنان، كما في أي دولة تحترم نفسها، لا تصمد الزعامات المصنوعة، ولا يبقى في النهاية إلا ما بُني على الحقيقة، والتحام الناس، والشرعية الشعبية.