هذا التوزيع الذي وصفه العديد من المراقبين بالـ"غير متكافئ" أثار موجة من الانتقادات على منصات التواصل الاجتماعي، والتي اعتبرته انعكاساً لسياسة تهميش القدرات العراقية وتفضيل مصالح طرف على حساب الآخر، في ظل حاجة
العراق الملحة إلى استثمار طاقاته البشرية في القطاعات الحيوية التي تمثل عصب اقتصاده.
اتفاق يثير الجدل: التفاصيل المعلنة وردود الفعل
جاء الإعلان الرسمي عن الاتفاق من العاصمة
اللبنانية، حيث كشف الوزير
محمد حيدر في مؤتمر صحفي عن توقيع مذكرة تفاهم مع العراق تهدف إلى تعزيز التعاون في مجالات التدريب المهني. وبموجب هذا الاتفاق، سيتلقى
الشباب العراقي تدريباً متخصصاً في قطاعي المطاعم والفنادق، وهما من أبرز القطاعات الخدمية التي يتميز بها
لبنان.
وفي المقابل، سيستفيد الشباب اللبناني من الخبرات العراقية في قطاعات النفط، التي تعتبر الدعامة الأساسية للاقتصاد العراقي والمحرك الرئيسي لعجلته التنموية.
وفقاً لمختصين في الشأن الاقتصادي، فإن الاتفاق المعلن يثير تساؤلات جدية حول فوائده الملموسة للعراق. فالنفط يمثل أكثر من 90% من إيرادات العراق الحكومية، ويعتبر قطاعاً حيوياً يتطلب استثمارات ضخمة في الكوادر البشرية المؤهلة. وكان من المتوقع أن تكون الأولوية لتدريب الشباب العراقي في هذا القطاع لتعزيز قدراته المحلية وتقليل الاعتماد على الخبرات الأجنبية.
في المقابل، يقتصر المقابل اللبناني على تقديم خبرات في قطاع الضيافة، وهو قطاع خدمي محدود الأثر مقارنة بالنفط. ويقول محللون إن "الفائدة العراقية من التدريب في هذا المجال تبدو هامشية وضعيفة جداً، خاصة في ظل حاجة العراق الملحة لتطوير بنيته التحتية النفطية والصناعية، وليس تنشيط السياحة التي تواجه تحديات أمنية وسياسية".
وهذا التفاوت في القيمة الاقتصادية للقطاعين يضع الاتفاق في موضع شك، ويجعله يبدو أقرب إلى دعم اقتصادي مباشر لطرف على حساب آخر، منه إلى تبادل خبرات متكافئ.
كما أشار العديد من المنتقدين إلى أن الاتفاق قد يؤدي إلى استنزاف للموارد البشرية العراقية. فبدلاً من تدريب الشباب العراقي ليكونوا قادة المستقبل في قطاع النفط، يتم فتح الباب أمام خبراء لبنانيين ليحصلوا على تدريب في هذا القطاع الحيوي، وهو ما يثير المخاوف بشأن مستقبل الكوادر العراقية. ويرى العديد من العراقيين أن الاتفاق يفتقر إلى التكافؤ، إذ أن العراق يمتلك قطاعاً نفطياً كبيراً، ومن الأولى أن يتم تدريب الشباب العراقي في هذا القطاع الحيوي.
في المقابل، يؤكد المؤيدون أن الاتفاق يصب في مصلحة العراق على المدى الطويل، من خلال تدريب الشباب على قطاعات حيوية مثل السياحة والضيافة، وهو ما يساهم في تنويع الاقتصاد العراقي وتقليل اعتماده على النفط كمصدر وحيد للدخل.
وبعيداً عن الجوانب الاقتصادية، يرى العديد من المراقبين أن الاتفاق يحمل دلالات سياسية تتجاوز إطار التعاون المهني. فقد وصفه خبراء بأنه "يظهر انحيازاً واضحاً لصالح لبنان". ففي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها لبنان، يُنظر إلى هذا الاتفاق على أنه محاولة لتخفيف الضغط على الحكومة اللبنانية وتقديم دعم رمزي لها، وهو ما يثير تساؤلات حول جدوى الاتفاق وفوائده الحقيقية للطرفين.
كما أن الغموض الذي يكتنف آليات التنفيذ وتمويل المشروع يعزز الشكوك بشأن جدية الاتفاق. فالاتفاقية تبدو أقرب إلى خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية وتخفيف الضغوط الداخلية، أكثر مما هي مشروع اقتصادي متكامل يحقق فوائد متبادلة وملموسة.
ويشير هذا الأمر إلى أن الاتفاق قد يكون جزءاً من استراتيجية سياسية أوسع نطاقاً، تهدف إلى توطيد العلاقات بين البلدين على حساب مصالح اقتصادية حقيقية للعراق. فالجانب الاقتصادي من الاتفاق يبدو غير مبرر، مما يضع علامات استفهام كبيرة حول الدوافع الحقيقية وراءه، وهل هي فعلاً دوافع اقتصادية بحتة أم أن هناك أبعاداً سياسية خفية تتحكم بها.
تأتي هذه الاتفاقية في وقت يواجه فيه العراق تحديات اقتصادية واجتماعية ضخمة، خاصة فيما يتعلق بملف بطالة الشباب. فالعراق يعاني من تعطيلاً شبه كامل في القطاع الخاص، الذي يُعد الأمل الأبرز للشباب في إيجاد فرص عمل، إذ تواجه الشركات الصغيرة والمتوسطة صعوبات كبيرة نتيجة ضعف البنية التحتية، وتأخر المشاريع الاستثمارية، ونقص التمويل الكافي.
ويشير مراقبون إلى أن استمرار هذا الوضع يزيد من معدلات البطالة ويحد من قدرة الشباب على الاعتماد على أنفسهم. هذا الوضع يجعل أي اتفاقيات اقتصادية غير متكافئة مع دول أخرى، مثل لبنان، ذات فائدة محدودة بالنسبة للعراقيين، ويثير تساؤلات حول جدوى السياسات الاقتصادية الحالية.
ويعكس الغضب الشعبي من هذه الاتفاقية حالة من الإحباط العميق لدى الشباب العراقي الذي يرى أن الفرص المتاحة لهم محدودة جداً، وأن الحكومة لا تضع مصالحهم في الأولوية عند صياغة
الاتفاقيات الدولية. ففي الوقت الذي يحتاج فيه الشباب العراقي إلى تدريب متخصص في قطاعات استراتيجية كالنفط والغاز والتصنيع، يتم توجيههم نحو قطاعات لا تخدم أهداف التنمية الاقتصادية الشاملة في البلاد، مما يثير تساؤلات حول مدى فهم المسؤولين للاحتياجات الحقيقية للسوق والشباب.
في ضوء هذا الجدل، دعا العديد من الناشطين إلى ضرورة إعادة النظر في الاتفاق وتعديله بما يحقق مصلحة العراق أولاً. وأشاروا إلى أهمية تدريب الشباب العراقي في القطاعات الحيوية مثل النفط والغاز، بدلاً من التركيز على مجالات قد لا تساهم في بناء
الاقتصاد الوطني. ويجب على المسؤولين العراقيين إعادة تقييم الاتفاق وضمان أن يكون له فوائد ملموسة للشباب العراقي ويساهم في تطوير الاقتصاد الوطني. فالأمر لا يتعلق بالجانب الدبلوماسي فقط، بل بتوفير فرص حقيقية للجيل الجديد ليكون قادراً على بناء مستقبل بلده.
وفي الختام، يمثل هذا الجدل حول الاتفاق بين العراق ولبنان فرصة للحكومة العراقية لإعادة تقييم استراتيجياتها الاقتصادية، ووضع مصالح الشباب وتنمية القطاعات الحيوية في صلب أي اتفاقيات مستقبلية، بما يضمن تحقيق التنمية المستدامة والمستقبل الأفضل الذي يستحقه الشعب العراقي.