"صفر النحس"
ويُعرف شهر صفر في الثقافة الشعبية العراقية بشهر المصائب، إذ يترافق مع مناسبات حزينة أبرزها أربعينية الإمام الحسين (ع)، إضافة إلى اعتقادات متوارثة تعتبره شهراً لا يُستحب فيه بدء المشاريع الجديدة أو إقامة حفلات الزفاف أو حتى اتخاذ قرارات مصيرية.
ويقول الباحث في التراث الشعبي حسام المعمار، لـ
السومرية نيوز، ان "شهر صفر يرتبط في المخيال الشعبي العراقي بجملة من الاعتقادات التي تعود بجذورها إلى مئات السنين، وهو ليس حكراً على
العراق، بل ينتشر في دول عربية وإسلامية، لكن العراقيين صاغوا له طقوساً خاصة، منها كسر الصحون وحرق المكانس عند نهايته، كنوع من التطهير الرمزي للبيت من الحزن وسوء الحظ".
كسر الصحون القديمة
وفي الليلة الأخيرة من صفر، تخرج بعض العوائل إلى فناء الدار أو أسطح المنازل، وتقوم بكسر الأواني القديمة أو المهشمة، في طقس يتجاوز الوظيفة العملية، ليحمل دلالة رمزية عميقة.
وتؤكد أم
مرتضى، من سكنة
مدينة الكاظمية، لـ
السومرية نيوز، "منذ أن كنت صغيرة، اعتادت أمي وجدتي على كسر صحن قديم في نهاية صفر، ويقولون إنّ بهذه الحركة نكسر النحس ونفتح باب الخير للبيت".
وأضافت "كنا نضحك أحياناً من هذه العادات، لكنها أصبحت جزءاً من ذاكرتنا".
ويضيف زوجها، أبو مرتضى، وهو موظف متقاعد "رغم التقدم والتطور، تبقى بعض الطقوس تحمل قيمة نفسية. حين تكسر شيئاً ما، تشعر وكأنك تزيح عنك الهمّ المتراكم طوال الشهر".
حرق المكانس
وواحدة من أغرب هذه الطقوس هي حرق المكنسة القديمة، حيث تُجمع الأوساخ الموجودة في المنزل وتُوضع في المكنسة، ثم تُحرق خارج البيت.
ويُعتقد أن هذا الفعل يرمز إلى حرق النحس والتخلص من الأرواح الشريرة أو الطاقات السلبية.
وتقول الحاجة أم علاء من
الناصرية لـ السومرية نيوز، "نأخذ المكنسة القديمة، نضع فيها كل شيء لا نريده في بيتنا، حتى أحياناً نضع ورقة مكتوب عليها همومنا، ونحرقها.
بعدها نقرأ المعوّذات ونرشّ ماء الورد".
رجال الدين: لا أصل شرعي لتلك الممارسات
في المقابل، يرى بعض رجال الدين أن هذه الممارسات لا تستند إلى أي دليل شرعي، بل تنتمي إلى التراث الشعبي والأساطير.
ويقول رجل الدين الشيخ جاسم
الكعبي، "لا يوجد في
الشريعة الإسلامية ما يُثبت أن شهر صفر شهر نحس، فكل الشهور متساوية عند الله. وهذه الطقوس، وإن كانت لا تؤذي أحداً، لكنها تُرسخ خرافات غير صحيحة في عقول الناس، خاصة الأطفال".
ويوضح "علينا أن نفرّق بين ما هو تراثي يمكن قبوله كجزء من الهوية الثقافية، وبين ما هو خرافة إذا تجاوز حدّ العقل والمنطق".
تأثير نفسي إيجابي للطقوس الجماعية
من جانبه، يرى الطبيب النفسي كريم
العزاوي، أن "لهذه الممارسات بُعداً نفسياً مهماً، حتى وإن لم يكن لها سند ديني أو علمي".
وذكر "حين يقوم الإنسان بطقس جماعي يعتقد من خلاله أنه يتخلص من الهم أو الحزن، فإن هذا الفعل بحد ذاته يمنحه نوعاً من الراحة. إنها عملية إسقاط رمزي للمشاعر السلبية على أشياء مادية، وهذا معروف في العلاج النفسي السلوكي أيضاً".
طقوس في القرى
ولا يقتصر الأمر على كسر الأواني والمكانس، ففي بعض القرى العراقية، خصوصاً في محافظات الجنوب، تجري طقوس أخرى مثل رش
الملح على أبواب البيوت، وقراءة آيات من
القرآن الكريم لطرد "العين والسحر".
ويقول مختار إحدى قرى
ميسان لـ السومرية نيوز، "تقوم النساء بطبخ طعام بسيط يوزع للفقراء، والبعض يرسم دائرة من الماء والملح حول البيت، ويُقال إن ذلك يبعد النحس والطاقة السلبية، وهي ممارسات توارثناها منذ القدم".
ورغم تطور الحياة وانفتاح العراقيين على العالم، لا تزال بعض الطقوس الشعبية تجد لنفسها موطئ قدم في الوجدان الجمعي.
فبين من يؤمن بها ويطبقها سنوياً، ومن يراها خرافة لا تناسب العصر.
ويبقى وداع صفر مناسبة رمزية يُسقط فيها الناس أحزانهم، ويستقبلون شهر
ربيع الأول بالأمل والتفاؤل، بعد أن طردوا "النحس" بكسر صحن، أو حرق مكنسة.