وفي
العراق، يأخذ هذا اليوم أبعاداً خاصة بالنظر إلى ما يعانيه المسنون من ظروف صعبة، تتراوح بين التعنيف الأسري، والإهمال الرسمي، وضعف الخدمات الموجهة لهم، فضلاً عن محدودية دور الرعاية وتراجع الاهتمام المجتمعي بمكانتهم.
رغم أن العراق يتمتع بتراث حضاري وديني يولي كبار السن منزلة عالية، إلا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك، حيث تزداد حالات سوء المعاملة، وتبقى دور الرعاية قليلة وضعيفة التجهيز، فيما تفتقد السياسات الحكومية إلى الرؤية الاستراتيجية للتعامل مع هذه الفئة.
واقع المسنين في العراق
تشير إحصاءات
وزارة التخطيط الصادرة في شباط/فبراير 2024 إلى أن عدد سكان العراق بلغ 46 مليوناً و118 ألف نسمة. ومن بين هؤلاء، يشكل كبار السن (65 سنة فأكثر) نسبة 3.66% فقط، أي ما يقارب مليوناً و700 ألف شخص.
ورغم أن هذه النسبة تعد منخفضة مقارنة بالمعدل العالمي (10.3%)، إلا أن التحديات التي يواجهها المسنون العراقيون تفوق ما قد يواجهه نظراؤهم في دول أخرى.
تؤكد تقارير محلية ودولية أن عدداً غير قليل من كبار السن في العراق يعيشون في ظروف غير إنسانية، حيث يفترش بعضهم الأرصفة في
بغداد ومدن أخرى بسبب الفقر أو غياب الدعم الأسري. كما سجلت منظمات حقوقية تزايداً في حالات التعنيف الأسري التي يتعرض لها المسنون، الأمر الذي يعكس ضعف منظومة الحماية القانونية والاجتماعية.
مر العراق بسلسلة من الحروب والأزمات الأمنية منذ ثمانينيات القرن الماضي، مروراً بفترة الحصار الدولي في التسعينيات، ثم الحروب بعد 2003، وصولاً إلى اجتياح تنظيم "داعش" للعديد من المناطق. كل ذلك أدى إلى فقدان مئات آلاف الشباب، وترك آثاراً نفسية واجتماعية عميقة. وفي خضم هذه الأزمات، لم يكن ملف كبار السن ضمن أولويات الحكومات المتعاقبة، بل تراجع الاهتمام بهم إلى مرتبة ثانوية مقارنة بملفات الأمن والإعمار.
وشهد العراق خلال الفترة الأخيرة، ومن خلال ما يتم تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قصصا حزينة عن تخلي الأبناء عن آبائهم وأمهاتهم، حتى أصبحت دور المسنين لا تتسع لهم، من بينهم أشخاص أصحاء يمتلك بعضهم رواتب تقاعدية، إلا أنهم فوجئوا بعدم تقبلهم بين أبنائهم، أو تعنيفهم، أو الاستيلاء على أموالهم، فلجأ بعضهم إلى الشارع بحثًا عن ملاذ آمن يأويهم، في حين فضل آخرون الذهاب إلى دار المسنين لينضموا إلى من أجبرهم أبناؤهم على العيش في تلك الدور.
ماذا عن القانون؟
قانون دور رعاية المسنين رقم (4) لسنة 1985، نص بوضوح على أن هدف دور رعاية المسنين هو تقديم خدمات اجتماعية وصحية ونفسية وثقافية وترفيهية للمستفيدين، وتمكينهم من التغلب على آثار العجز وضمان حياة كريمة لهم. بل إن القانون حدّد تفاصيل دقيقة تتعلق بالاحتياجات اليومية مثل الملابس وأدوات النظافة وحتى الفواكه.
غير أن الواقع الميداني يكشف فجوة كبيرة بين النصوص والتطبيق، إذ تعاني معظم دور الرعاية في العراق من إهمال مزمن، حيث تفتقر للنظافة والصيانة، والأسِرّة متهالكة، والخدمات الصحية محدودة. ووفقاً لتصريحات
وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، يوجد في العراق 13 داراً فقط لرعاية المسنين، بينما تخلو محافظات
صلاح الدين والأنبار وديالى من أي دار متخصصة.
وغالبا ما تنشر في
وسائل التواصل الاجتماعي، العديد من الشكاوى والصور، حول الواقع السيء لدور رعاية المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة، فغالبا ما تكون متسخة والأسرة متهالكة وتفتقر لأبسط مقومات الحياة اليومية.
مقارنة دولية
عند المقارنة بدول أخرى، فان العراق، رغم أن نسبة المسنين فيه منخفضة نسبياً (3.66%)، إلا أنه جاء في المرتبة 87 عالمياً على مؤشر HelpAge لجودة حياة المسنين، وهو ترتيب متأخر يكشف عن ضعف أنظمة الرعاية الصحية والاجتماعية. ويزيد الطين بلة أن أكثر من نصف هذه الفئة يفتقرون إلى تقاعد أو دعم اقتصادي منتظم، ما يضطر الكثير منهم إلى الاستمرار في العمل رغم تقدم العمر.
هذا الترتيب يعكس ضعف السياسات العراقية تجاه كبار السن، رغم أن العراق يمتلك إمكانيات بشرية ومادية يمكن أن تضعه في مرتبة أفضل.
يشار إلى أن واحداً من كل ستة أشخاص في عمر الستين وما فوق، يتعرض كل عام لشكل من أشكال سوء المعاملة، وهو اتجاه من المتوقع أن يستمر مع زيادة الشيخوخة بين السكان بشكل متسارع في العديد من البلدان، بحسب
منظمة الصحة العالمية.
وفي العراق، لم يسلم المسنون من الاعتداءات الجسدية واللفظية والنفسية والجنسية، إذ سجلت المحاكم العراقية خلال عام ونصف؛ ورود 2622 شكوى تعنيف لكبار السن، وأكد
مجلس القضاء الأعلى أن هذه الأرقام تخص الاعتداءات التي طالت المسنين من قبل أفراد العائلة فقط، وهي تخص عام 2021 والنصف الأول من عام 2022.
البعد الديني
للتراث الديني والاجتماعي في العراق موقف واضح من قضية رعاية المسنين. فقد أكد القرآن الكريم على الإحسان إلى
الوالدين عند الكبر: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ (الإسراء: 23). كما ورد في الحديث النبوي الشريف: (ما أكرم شابٌ شيخاً لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنّه).
غير أن هذه القيم الروحية لا تجد صداها بشكل كافٍ في الممارسات اليومية، حيث بات الكثير من المسنين يعانون من التهميش، بل إن بعضهم يتعرضون للتخلي عنهم من قبل أسرهم. وهنا تظهر الحاجة إلى حملات توعية مجتمعية تُعيد الاعتبار لدور كبار السن كحكماء ومستشارين وأصحاب خبرة حياتية.
يؤكد الباحث في علم الأنثروبولوجيا، الدكتور يحيى حسين، أن للمسنين أدواراً محورية في المجتمعات التقليدية، حيث يشكّلون المرجعية في حل النزاعات، والمحافظة على النسيج الاجتماعي. وهذا ما ينطبق على العراق أيضاً، حيث يشكّل الشيوخ وكبار السن ركائز أساسية في القبائل والعشائر، ومصدراً للحكمة والاستقرار. غير أن التحولات الاجتماعية الحديثة، وتراجع سلطة التقاليد، قلّصت من مكانتهم لصالح جيل الشباب الأكثر ارتباطاً بالتكنولوجيا.
بينما تقول الدكتورة مها الصكبان، رئيسة مركز حقوق المرأة الإنساني: "للأسف يُعامل المسن في العراق وكأنه عبء قبل أن يصل إلى سن الشيخوخة، بينما في الحقيقة هو ثروة وطنية لا تُقدّر بثمن. المجتمعات المتقدمة تستفيد من خبراتهم وتجعلهم جزءاً من القرار، بينما نحن نُقصيهم ونتركهم على الهامش".
وغم الصورة القاتمة، إلا أن هناك فرصاً يمكن استثمارها – بحسب باحثين – وهي إعادة تأهيل الدور القائمة عبر تخصيص ميزانيات مستقلة لتحسين بنيتها التحتية، وكذلك إصدار تشريعات حديثة تعزز حماية المسنين من التعنيف والإهمال، وتفرض عقوبات على من يسيء معاملتهم، بالإضافة الى إشراك منظمات
المجتمع المدني في تقديم خدمات دعم نفسي واجتماعي وصحي للمسنين، وتعزيز ثقافة التكافل الأسري عبر المناهج الدراسية وحملات التوعية، إضافة الى الاستفادة من خبرات المسنين في مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم، من خلال إنشاء مجالس استشارية تضم خبراء متقاعدين.
في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2024، احتفل العالم باليوم العالمي للمسنين تحت شعار "الحفاظ على
الكرامة مع التقدم في السن"، ودعت
الأمم المتحدة إلى تعزيز أنظمة الدعم والرعاية. أما على المستوى العربي، فقد أقرّت
جامعة الدول العربية تخصيص يوم 10 تشرين الأول يوماً عربياً للمسنين، لتشجيع الدول الأعضاء على إدماج هذه الفئة في سياساتها.
إلا أن العراق لا يزال بعيداً عن تطبيق سياسات شاملة، مكتفياً بخطوات جزئية مثل خطط وزارة العمل لافتتاح دور جديدة أو إعادة تأهيل الدور القائمة.
ويكمن القول إن الاهتمام بكبار السن ليس ترفاً اجتماعياً، بل واجب ديني وإنساني ووطني. وفي بلد مثل العراق، الذي قدّم مسنوه الكثير في بناء الدولة والدفاع عنها، يصبح من الضروري إعادة الاعتبار لهم، من خلال خطط شاملة للرعاية والدعم، وتشريعات متقدمة تضمن حقوقهم، وحملات توعية تُعيد إحياء قيم البر والاحترام. فالمسنون ليسوا عبئاً على المجتمع، بل هم ذاكرة الأمة وخزان حكمتها وتجربتها.