هذه الخطوة التي جاءت ضمن البرنامج الحكومي، تهدف إلى كسر احتكار طويل الأمد فرضته شركتا زين
العراق وآسيا سيل على السوق المحلية، وإطلاق عصر جديد من المنافسة عبر شبكة الجيل الخامس (5G)، في وقت ما زال فيه المواطن العراقي يعاني من ضعف الخدمة وارتفاع الأسعار، وغياب الشفافية في إدارة قطاع يُعدّ من أكثر القطاعات ربحاً في البلاد.
ولادة مشروع وطني
وفق البيان الرسمي لمكتب
رئيس الوزراء، فإن الشركة الوطنية للهاتف النقال تأسست بمساهمة ثلاث جهات حكومية رئيسية هي: صندوق تقاعد موظفي الدولة، والمصرف العراقي للتجارة (TBI)، وشركة السلام العامة التابعة لوزارة الاتصالات.
ورغم أن المشروع خُطط له منذ أكثر من عامين، فإن تأسيس الشركة في آب 2025 مثّل أول ترجمة فعلية لتوجه الحكومة نحو امتلاك ذراع وطنية في قطاع الاتصالات. ويؤكد رئيس الوزراء أن "الشركة الوطنية خطوة نوعية لتعزيز خدمة الاتصالات وتطوير الاقتصاد غير النفطي، وخلق منافسة حقيقية تصبّ في مصلحة المواطن".
وأوضح، أن "هذه الخطوة تعد الأولى بدخول ثلاث جهات حكومية لتأسيس شركة الهاتف النقال، التي ستكون متاحة لاكتتاب المواطنين للمساهمة في رأس مال الشركة، وهو ما يمثل أحد المسارات التي تعتمدها الحكومة في تعزيز الاقتصاد غير النفطي"، مشيراً إلى أن "تأسيس الشركة لا يعني تقييد القطاع الخاص وإنما خلق جو من التنافس بهدف تقديم أفضل الخدمات للمواطنين".
الشراكة مع "فودافون".. تعاون أم تنازل؟
تعود جذور المشروع إلى
قرار مجلس الوزراء في 11 آذار 2025، الذي وافق على تأسيس الشركة الوطنية وتشغيلها بالتعاون مع شركة "فودافون"، وهي واحدة من أكبر شركات الاتصالات العالمية. وقد جاءت الموافقة بعد مفاوضات قادتها
وزارة الاتصالات ضمن فريق تفاوضي رسمي استمر لأشهر.
وذكر
المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء في بيان حينها إن "
مجلس الوزراء وافق على تأسيس (الشركة الوطنية للهاتف النقال)، بمساهمة وزارة الاتصالات، وهيئة التقاعد الوطنية، والمصرف العراقي للتجارة، تتولى تشغيل الرخصة الوطنية بتقنية الجيل الخامس، وبالتعاون مع شركة فودافون العالمية للاتصالات".
فيما قالت وزيرة الاتصالات هيام الياسري في تصريح مصور عقب جلسة التصويت، إن قرار تأسيس الشركة بمساهمة وزارة الاتصالات متمثلة بشركة السلام العامة، ومصرف التجارة العراقي، اضافة الى هيئة التقاعد الوطنية، بهدف تعظيم صندوق تقاعد الموظفين وتقديم خدمات مدعومة للمتقاعدين.
وزيرة الاتصالات هيام الياسري أوضحت مؤخراً أن اختيار "فودافون" جاء لـ"نقل الخبرة التقنية وتدريب الكوادر العراقية على إدارة شبكات الجيل الخامس"، مؤكدة أن التعاقد "تم وفق
قرارات مجلس الوزراء وبما يتماشى مع الدستور والقانون".
وفي شهر كانون الاول الماضي، أعلنت وزيرة الاتصالات هيام الياسري عن إصدار مجلس الوزراء قراراً هاماً بالموافقة على اختيار شركة فودافون العالمية مشغلاً للرخصة الوطنية الحكومية للهاتف النقال بتقنية الجيل الخامس والذي جاء بناءً على توصيات الفريق التفاوضي المشكل في وزارة الاتصالات.
وتأتي هذه الخطوة بعد سنوات من معاناة العراقيين مع ضعف شبكات الهاتف النقال وارتفاع تكاليف الخدمات، وتدشين احتكار شبه مطلق لشركتي الاتصالات الرئيسيتين "زين العراق" و"آسيا سيل".
معروفٌ أنَّ قطاع الاتصالات في العراق يفتقر إلى عامل التنافس، نظراً لمحدوديَّة الشركات الفاعلة فيه، ما يترك خياراتٍ قليلةً أمام المواطن، الأمر الذي يحدّ كثيراً من وتيرة رفع مستوى الخدمات ويُقلّل من إمكانيَّة وجود أسعارٍ تنافسيَّة.
وبحسب التقديرات، فإن دخول الشركة الوطنية سيؤدي إلى زيادة المنافسة وإجبار الشركات على تحسين عروضها، وخلق تأثير مالي مباشر من خلال خفض الأسعار أو رفع الاستثمارات، وأيضاً تحسين مستوى الخدمة للمواطنين، وإعادة التفاوض على العقود والتراخيص لضمان عوائد أفضل للدولة.
لكن سرعان ما تفجّر الجدل حول العقد. إذ أكدت لجنة النقل والاتصالات في سبتمبر/أيلول الماضي، وجود خروقات قانونية في عقد وزارة الاتصالات مع شركة فودافون، مشيرة إلى أن بنود العقد تمنح الشركة صلاحيات واسعة وغير مسبوقة في مجالات الأمن السيبراني ورسم السياسات التقنية، بما يمسّ السيادة الوطنية ويستوجب تدخّل القضاء العراقي.
وقالت رئيسة اللجنة، زهرة البجاري، إن اللجنة تفاجأت بوجود خرق واضح خلال التعاقد مع شركة فودافون، مبينة أنّ الشركة البريطانية حصلت على جميع الامتيازات في العقد المبرم، وهو أمر يثير الاستغراب ويشكّل تدخّلاً غير مقبول. وأضافت في تصريحات للصحافيين، أنّ العقد منح فودافون حرية الانسحاب من العمل في أي وقت، ما يضع مستقبل المشروع في دائرة الغموض، كما يتضمن صلاحيات مطلقة للشركة في مجال الأمن السيبراني والتنصّت من دون وجود ضوابط واضحة من الجانب العراقي.
وأشارت البجاري، إلى أنّ وزارة الاتصالات منحت فودافون صلاحية رسم السياسات الإلزامية للعمل داخل العراق، ما يثير القلق بشأن السيادة التقنية والرقابية. وبيّنت، أنّ اللجنة خاطبت الادّعاء العام لرفع قضية التعاقد إلى المحاكم المختصّة لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، ولا سيّما أن وزارة الاتصالات ستدفع مبلغ 1.7 مليار دولار للبنى التحتية لشركة الاتصالات الوطنية، تتضمّن نسبة 3.5% لصالح فودافون، فضلاً عن تخصيص 5 ملايين يورو سنوياً لسفر الخبراء الأجانب وحمايتهم، وهي نفقات تتحمّلها الوزارة بالكامل، إضافةً إلى دفع 12 مليون يورو مقابل استخدام اسم فودافون فقط.
نزاع قانوني يوقف المشروع مؤقتاً
كما ان وزيرة الاتصالات هيام الياسري قد بررت الأمر بعدم توقيع العقد مع شركة فودافون لغاية الآن، مؤكدة في الوقت ذاته أن مشروع تأسيس شركة وطنية للهاتف النقال يُعدّ خطوة مهمة من الناحية الاقتصادية وسيسهم في توفير فرص عمل للشباب.
وقالت الياسري، في إيضاح صحافي يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول، إن الوزارة أطلقت مشروع تأسيس شركة وطنية للهاتف النقال، وتم التوقيع عليه بحضور رئيس الوزراء في الـ31 أغسطس/آب الماضي، حيث تم تأسيس الشركة بأيدٍ عراقية خالصة وبأموال عراقية، وهي الجهة المعنية بالمشروع.
وأضافت أن هذه الشركة، وبحسب قرار
مجلس النواب، يجب أن تختار مشغّلاً عالمياً (فودافون) لتشغيل خدمة الجيل الخامس، بهدف نقل الخبرات وتدريب الكوادر العراقية، لافتة إلى أن جميع الإجراءات التي قامت بها الوزارة والشركة الوطنية جرت وفق قرارات مجلس الوزراء، وبما يتماشى مع الدستور والقانون.
وتابعت أن المرحلة وصلت إلى توقيع عقد الرخصة مع
هيئة الإعلام والاتصالات، وكان من المقرر أن يتم ذلك في 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وإذا ما حصلت الشركة الوطنية على عقد الرخصة، فسيكون بإمكانها توقيع عقد شراكة مع شركة فودافون أو غيرها، إلا أن ما حدث هو صدور أمر قضائي بإيقاف توقيع عقد الشركة العراقية مع هيئة الإعلام والاتصالات.
تهديدات وشائعات
ومع تصاعد الجدل، تداولت
وسائل التواصل الاجتماعي خبراً مثيراً مفاده أن "مدير شركة آسيا سيل هدد وزيرة الاتصالات بالقتل"، ما استدعى رداً عاجلاً من الوزارة التي نفت صحة الادعاء تماماً. وقال المتحدث باسم الوزارة عمر
عبد الرزاق مصحب، في بيان إن "الوزارة تدعو وسائل الإعلام ورواد مواقع التواصل إلى تحري الدقة واستقاء المعلومات من المصادر الرسمية التابعة لها حصراً، وعدم الانجرار وراء الشائعات أو الأخبار غير الموثوقة التي تهدف إلى تضليل الرأي العام".
وبحسب التقنية من اجل السلام، فان مواقع التواصل الاجتماعي تداول خبرًا مفاده "وزيرة الاتصالات: مدير اسياسيل هددني بالموت"، لكن التصريح المنسوب إلى وزير الاتصالات هيام الياسري مضلل، إذ لم تذكر أن مدير شركة آسياسيل هددها بالقتل، بل أوضحت أن أحد مديري شركة آسياسيل، ذكر إن المشروع بالنسبة لآسياسيل مسألة حياة أو موت.
كما قالت الياسري في اللقاء ان مدير شركة آسيا سيل ونائب رئيس
مجلس الإدارة، أبلغنا بأن مشروع "فودافون" طلقة بالنسبة للشركة، وكذلك شركة زين قدموا شكوى ضدنا في القضاء، لمنع تأسيس شركة وطنية للهاتف النقال.
سوق محتكر وخدمة متعثّرة
منذ عام 2003، ظل قطاع الاتصالات في العراق محصوراً بثلاث شركات رئيسية هي زين العراق، وآسيا سيل، وكورك تليكوم، بينما لم تُتح الفرصة لأي شركة وطنية عامة لتقديم خدمات منافسة. وتُقدّر عائدات القطاع بمليارات الدولارات سنوياً، إلا أن المواطن العراقي ما زال يدفع أسعاراً مرتفعة لقاء خدمات يصفها المختصون بـ"الرديئة".
بحسب وزارة الاتصالات، فإن الشركة الوطنية ستتيح فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لآلاف العراقيين، إلى جانب فتح المجال أمام المستثمرين والمواطنين للاكتتاب في رأس المال.
وتُشير الدراسات الأولية إلى أن المشروع قد يضيف مليارات الدولارات إلى الاقتصاد الوطني خلال السنوات الثلاث الأولى، في حال تمكّن من استقطاب 10% فقط من سوق الهاتف النقال. كما يُتوقع أن يُسهم في تطوير البنى التحتية للاتصالات والإنترنت، ورفع مستوى الخدمات الحكومية الإلكترونية والتعليم عن بُعد، وهي قطاعات تعتمد بشكل متزايد على شبكات الجيل الخامس.
ورغم التفاؤل الحكومي، يرى بعض المحللين أن الطريق أمام الشركة الوطنية لن يكون سهلاً، فـ"النفوذ القوي للشركات الحالية، والعقود الطويلة الأمد، والمنافسة الشرسة"، كلها تحديات قد تُعيق الشركة عن الانطلاق بسرعة.
ويؤكد مراقبون أن نجاح الشركة الوطنية للهاتف النقال سيكون اختباراً حقيقياً لقدرة
الحكومة العراقية على كسر الاحتكار الاقتصادي وتفعيل الشركات العامة وفق أسس السوق الحديثة.
بين الرفض والقبول، وبين التوجّس والطموح، يقف مشروع الشركة الوطنية للهاتف النقال عند مفترق طرق. فإما أن يكون بداية "ثورة اتصالات وطنية" تضع العراق على خارطة التكنولوجيا الحديثة، أو أن يتحول إلى مشروع مؤجل جديد تُجهضه الخلافات والمصالح.
لكن ما هو مؤكد أن المواطن العراقي ينتظر خدمة تليق بعصر الجيل الخامس، بعد سنوات من بطء الشبكات وغياب العدالة السعرية.
وحتى إشعار آخر، ستبقى الشركة الوطنية عنواناً لمعركة كبرى بين إرادة التغيير ومصالح الاحتكار، معركة ستحدد ما إذا كان العراق قادراً على بناء قطاع اتصالات وطني مستقل فعلاً، أم أنه سيظل رهينة الشركات الخاصة ومراكز النفوذ القديمة.