هذا الثبات غير المبرر يثير تساؤلات حول مدى التزام الحكومة بتطبيق معايير الشفافية وتكافؤ الفرص وتدوير المناصب التي نصّ عليها الدستور والقوانين العراقية.
هيئات أنشأها الدستور وتحكمها السياسة
نصّ دستور العراق لعام 2005 على إنشاء عدد من الهيئات الوطنية المستقلة إداريًا وماليًا لتحقيق أهداف محددة بمعزل عن تأثير السلطتين التنفيذية والتشريعية وتتمتع هذه الهيئات بالشخصية المعنوية واستقلال وظيفي ويُحدد القانون مهامها وصلاحياتها.
كما توجد هيئات أخرى أُنشئت بقوانين خاصة بعد 2003 ترتبط إداريًا بمجلس الوزراء لكنها ليست ضمن تشكيلات الوزارات (تُعرف بالجهات غير المرتبطة بوزارة). ومنها:
ديوان الوقف الشيعي وديوان الوقف السني وديوان أوقاف الديانات
المسيحية والايزيدية والصابئة ومؤسسة الشهداء
ومؤسسة السجناء السياسيين وهيئة الأوراق المالية والهيئة الوطنية للاستثمار وهيئة المنافذ الحدودية والهيئة العليا للحج والعمرة.
أُنشئت الهيئات المستقلة بموجب الدستور أو قوانين خاصة وتتمتع بحصانة من التدخل التنفيذي، وتكون خاضعة لرقابة
مجلس النواب أو القضاء او
رئاسة الوزراء. هذه الجهات تتمتع أحيانًا باستقلال مالي أو شخصيات معنوية مستقلة بحسب قوانين تأسيسها لكنها تظل ضمن نطاق إشراف واستجواب إحدى السلطات.
ومن هذه الهيئات والجهات، مجلس الخدمة العامة الاتحادي والمفوضية العليا لحقوق الإنسان والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات وهيئة
النزاهة الاتحادية وديوان الرقابة المالية الاتحادي والبنك المركزي العراقي وهيئة الإعلام والاتصالات والهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة (هيئة اجتثاث البعث)
الهيئات المصنفة مستقلة دستوريًا (المادة 102) هي مؤسسات لا تتبع أي سلطة تنفيذية بشكل مباشر، وتخضع فقط لرقابة مجلس النواب، لضمان النزاهة والحياد.
الهيئات المستقلة ماليًا وإداريًا (المادة 103): تتمتع بحرية تنظيم ميزانياتها وإدارتها، لكنها قد ترتبط إداريًا بمجلس النواب أو
مجلس الوزراء.
الهيئات غير المستقلة تمامًا مثل مؤسسة الشهداء تخضع لسياسات الحكومة التنفيذية لكنها أُنشئت بقوانين خاصة لتقديم خدمات لفئات مجتمعية معينة.
ولا يتحدد عدد الهيئات في العراق بقانون، إذ إنّ دستور البلاد أقرّ وجودها، لكنه لم يحدّد عددها صراحة. وخلال الحكومات التي مرّت على العراقيين، تمّ استحداث أكثر من هيئة. كما ارتفع عدد الهيئات في العراق ليصبح أكثر من عدد الوزارات، إذ بلغ عددها أخيراً أكثر من 25 هيئة.
وتخضع جميع هذه الهيئات للمحاصصة الحزبية والتقاسم بين الكتل السياسية، في وقت تصل موازنة بعضها إلى ضعف موازنة الوزارات الدائمة في البلاد.
ولا تلقى الدعوات السياسية لتحديد عدد الهيئات وتحجيم أعمالها بالإضافة إلى إبعادها عن الأحزاب، آذاناً صاغية، إذ إنها لا تتعدى الدعوات الفردية. وما يثير استغراب العراقيين أنّ معظم الهيئات في البلاد تدار بـ"الوكالة" عبر الأحزاب. كما يتمّ توزيع الهيئات المستقلة بحسب الحصص الطائفية والقومية.
ثبات مديري الهيئات.. ثغرة في الإصلاح الإداري
من أبرز مظاهر الخلل أن معظم مديري الهيئات لم يتغيروا منذ أكثر من ثلاث سنوات، وبعضهم تجاوز فترتين حكوميتين متتاليتين. ويعود ذلك إلى غياب آلية قانونية واضحة تحدد مدة شغل المنصب أو تفرض تقييم أداء دوري، على عكس المناصب الوزارية التي تتغير بتغير الحكومة أو يتم استبدالها بقرارات
مجلس الوزراء.
وإن استمرار المدراء في مواقعهم لسنوات طويلة – بحسب مراقبين - دون تقييم أو تداول يؤدي إلى تآكل الشفافية وضعف الأداء المؤسسي، ويخلق بيئة خصبة للفساد الإداري والمالي. ويشار الى ان البعد السياسي يلعب دوراً محورياً في بقاء مديري الهيئات في مواقعهم.
خلال العامين الماضيين، أجرى
رئيس الوزراء محمد شياع السوداني حملة تغييرات واسعة شملت مئات المدراء العامين ووكلاء الوزارات في إطار مساعيه لإصلاح الجهاز الإداري للدولة. لكن مراقبين لاحظوا أن هذه الحملة لم تطل مديري الهيئات المستقلة، وهو ما فسّره البعض بأنه "تجنب للصدام السياسي" أكثر مما هو "استثناء قانوني".
وبحسب باحثين في الشأن العراقي، فإن "تغيير مدير هيئة يعني عملياً سحب نفوذ من جهة حزبية ومنحه لأخرى، لذلك تتجنب الحكومات فتح هذا الملف خشية تفجير أزمات سياسية داخل الائتلافات الحاكمة".
ويقترح خبراء الإدارة والحوكمة جملة من الإجراءات، من بينها، تحديد مدة قانونية لإدارة الهيئات المستقلة لا تتجاوز أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وتفعيل آلية تقييم الأداء السنوي للمدراء عبر لجان مشتركة من البرلمان وديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة، وكذلك إبعاد الهيئات فعلياً عن المحاصصة السياسية، إضافة الى نشر تقارير سنوية شفافة عن أداء كل هيئة وميزانيتها أمام الرأي العام. وأخيراً تشريع قانون موحد ينظم شؤون الهيئات المستقلة والجهات غير المرتبطة بوزارة لتحديد الصلاحيات وآليات الرقابة.
ويرى مختصون أن تطبيق هذه الإجراءات سيؤدي إلى تحقيق مبدأ تداول المسؤولية وتحصين المؤسسات من الفساد، كما سيسهم في تعزيز الثقة العامة بالإدارة الحكومية.
وفي النهاية يمكن القول إنّ بقاء مديري الهيئات المستقلة في العراق دون تغيير لسنوات طويلة يكشف عن خلل إداري وسياسي عميق في بنية الدولة، ويُعد مؤشراً على غياب المساءلة الحقيقية وتغليب المصالح الحزبية على المصلحة العامة.
وفي وقت تسعى فيه
الحكومة العراقية إلى استعادة ثقة المواطنين عبر حملات الإصلاح ومكافحة الفساد، يبقى ملف الهيئات المستقلة واحداً من أكثر الملفات تعقيداً وإلحاحاً، لأن إصلاحه يمثل المدخل الحقيقي لبناء إدارة رشيدة تقوم على الكفاءة لا الولاء، وعلى
الاستحقاق لا المحاصصة.
كما إن تدوير المناصب وإعادة هيكلة الهيئات وفق معايير مهنية شفافة هو الطريق الوحيد لضمان أن تبقى هذه المؤسسات أدوات رقابة وطنية لا مراكز نفوذ حزبي، وأن تُستعاد منطق الدولة في مواجهة منطق الحصص.