وما يشهده المستخدمون يومياً من محتوى يثير موجة واسعة من الغضب والاستياء، يطرح تساؤلات جادة حول مستقبل هذا
الفضاء الرقمي المفتوح، وآثاره المباشرة على السلوك الاجتماعي، والقيم العامة، وتربية الأجيال.
إشعارات تخدش الذوق العام
ولا يكاد المستخدم يلتقط هاتفه حتى تنهال عليه إشعارات من صفحات مجهولة أو حسابات ترند تستغل كل وسيلة ممكنة لجذب الانتباه، حتى لو تطلّب الأمر نشر صور فاضحة أو عناوين خادشة للحياء.
وتزداد المشكلة خطورة حين تصل هذه الإشعارات إلى هواتف القاصرين، أو تظهر أثناء وجود العائلة، ما يعكس انفلاتاً رقمياً غير مسبوق وانعداماً للضوابط الأخلاقية في المحتوى المنشور.
ويؤكد متخصصون أنَّ "هذه المشاهد تُستخدم كطُعم لجذب المشاهدات، مستغلين خوارزميات المنصات التي تكافئ كل ما يثير الجدل مهما كان مبتذلاً".
"بنات عاريات" وابتذال مقصود
ومن أبرز الظواهر التي شغلت
الشارع العراقي والعربي مؤخراً، انتشار مقاطع تُظهر فتيات ونساء بملابس فاضحة، أو بأوضاع لا تليق بالذوق العام.
وغالباً ما تُصوّر هذه المشاهد عن عمد، وتُنشر بقصد الحصول على ملايين المشاهدات التي تُدرّ أرباحاً مالية لأصحابها.
وبحسب مختصين، فإن "خطورة هذا النوع من المحتوى تكمن في تطبيع السلوكيات غير المقبولة مجتمعياً وتشجيع الفتيات الصغيرات على تقليد هذا النوع من الاستعراض وإضعاف قيم الحياء والاحترام وربط النجاح والشهرة بالسلوك المبتذل".
ويرى علماء اجتماع أن "انتشار هذه الظاهرة يعيد تشكيل النموذج الاجتماعي الذي يُقدَّم للأطفال والمراهقين، ما يخلق فجوة قيمية خطيرة بين الأجيال".
لغة بذيئة… وعنف لفظي يتحول إلى مادة ترفيهية
ويتناول كثير من صُنّاع المحتوى اليوم البذاءة كلغة تواصل رسمية. كلمات نابية، شتائم، إيحاءات جنسية، وتحقير للآخرين ــ كلها تُقدَّم تحت عنوان مزحة أو سكتش كوميدي.
ويشير خبراء التحليل النفسي إلى أن "التطبيع مع هذا النوع من الخطاب يؤثر سلباً على طريقة الحوار الاجتماعي وقدرة الشباب على التعبير الراقي وانتشار التنمّر واللغة العدائية وتشويه صورة العلاقات الإنسانية".
حركات مقصودة لكسب الترند
ولم يعد الترند اليوم تعبيراً عن اهتمام الناس الحقيقي، بل أصبح صناعة قائمة على إثارة الجدل بأي وسيلة ممكنة مثل افتعال مشاكل وبثها مباشرة او تصوير لحظات خاصة ومسيئة للعائلة او اصطناع صراعات وهمية بين المؤثرين او عرض تفاصيل الحياة الشخصية بشكل مخل او تنفيذ حركات مبتذلة أو تحرش مقنع على الهواء.
وهذه الأساليب تجذب الجمهور في البداية، لكنها تخلق موجة تضرّ بالمجتمع على المدى البعيد، لأنها تفرض نموذجاً مختلاً للنجاح يقوم على الضوضاء وليس على القيمة.
صفحات التوعية
وعلى الرغم من هذه
الفوضى، ما تزال هناك صفحات رصينة تنشر محتوى تثقيفياً وتوعوياً، سواء في
الصحة أو القانون أو الدين أو الثقافة العامة، لكنها تعاني من ضعف الانتشار مقارنة بالصفحات التي تعتمد على الابتذال لإغراء الخوارزميات.
ويرجع أصحاب هذه الصفحات السبب إلى ضعف الدعم من المؤسسات الرسمية وعزوف الجمهور عن المحتوى الطويل أو التحليلي وهيمنة الخطاب السطحي على الفضاء الرقمي وانتشار الذباب الإلكتروني والمحتويات الممولة المفتقرة للمهنية.
مستخدمون: نحتاج إلى رقابة عقلانية
الكثير من المستخدمين يطالبون اليوم بوضع ضوابط أكثر صرامة لمحتوى المنصات الرقمية داخل
العراق ودول المنطقة، دون المساس بحرية التعبير. ويرى هؤلاء أن الحاجة ملحة إلى حملات توعية للأسر حول مراقبة المحتوى مع تشديد العقوبات على الصفحات التي تروّج للإباحية أو العنف اللفظي ودعم المحتوى الهادف والثقافي إضافة الى وضع فلاتر للمحتوى غير المناسب للقاصرين وتدريب الأطفال على الاستخدام الآمن للإنترنت.
هل يمكن إعادة التوازن للفضاء الرقمي؟
ويؤكد مختصون أنّ "الحل لا يكون بالمنع الكامل ولا بالترك المطلق، بل بتنظيم واعٍ ومسؤول، تشترك فيه الجهات الحكومية، والمؤسسات التربوية، والمدارس، ووسائل الإعلام، والأهالي، إضافة إلى المنصات الرقمية نفسها".
وتابعوا ان "الفضاء الإلكتروني اليوم جزء أساسي من حياتنا ولا يمكن تجاهله، لكنه بحاجة إلى ثقافة رقمية حقيقية تضع حدوداً واضحة بين الحرية وبين الإساءة".
ولم يعد سوء استخدام مواقع التواصل الاجتماعي مجرد ظاهرة عابرة، بل تحول إلى أزمة ثقافية واجتماعية تهدد الذوق العام، وتؤثر في قيم المجتمع وسلوك أفراده.
في مقابل موجة المحتوى المبتذل التي تجتاح المنصات، يبقى الأمل قائماً في تعزيز الصفحات الهادفة وتشجيع المبادرات التي تنشر المعرفة والوعي، حتى يستعيد الفضاء الرقمي دوره الحقيقي كمصدر للمعلومة والثقافة والتواصل البنّاء، لا كمسرح للابتذال والضوضاء.