ليست الأفلام الوثائقية مجرّد مشاهد مسجلة، بل هي تجارب حسية تختزل الروائح والأذواق. في فيلم "عبير العراق" يستحضر الصحفي فرات العاني طفولته في العراق عبر تفاصيل تبدو بسيطة لكنها عميقة الدلالة: طعم آيس كريم المشمش الذي تذوقه عام 1988 خلال زيارته الأولى لموطن أجداده، بينما تهمس ابنة عمه في أذنه تحذيراً مرعباً: "لا تذكر اسم صدام حسين في الشارع أبداً". بهذه التفاصيل، يرسم العاني صورةً للديكتاتورية التي كانت تخيم على البلاد حتى في أبسط لحظات البراءة.
View this post on Instagram A post shared by ARTE (@artefr)
A post shared by ARTE (@artefr)
بغداد: من الديكتاتورية إلى الحصار
تعود الكاميرا في فيلم "عبير العراق" إلى بغداد عام 1992، بعد عامٍ على حرب الخليج، لترصد تحولًا كارثيًا: مدينته التي عرفها في طفولته أصبحت تحت الحصار، يعاني سكانها من انقطاع الكهرباء والمياه، بينما تحولت السلع الأساسية إلى رفاهية. حتى الآيس كريم، رمز الطفولة البريئة، أصبح "سلعة مهربة نلتهمها كالمخدرات"، كما يصفه العاني. هنا، يتحول الفيلم من سيرة ذاتية إلى وثيقة تاريخية تروي سبعين عاماً من تاريخ العراق عبر عيون ابنه المغترب.
الصحفي في قلب العاصفة
بعد أن أصبح صحفيًا، اختار العاني أن يعيش في "المنطقة الحمراء" ببغداد، حيث يعيش المدنيون تحت وطأة العنف اليومي، بعيدًا عن "المنطقة الخضراء" المحصنة التي تحتضن القوات الأمريكية. يعرض الفيلم مشاهد مؤلمة، يصف فيها العاني أصبحت الحرب لغته اليومية: "تعلمت أن أميز بين أصوات القنابل والرصاص، لأنّ الحياة قد تعتمد على هذه المعرفة".
إرث من الورق والرسوم
هذا العمل ليس الاوّل من نوعه في توثيق مأساة العراق، فقد سبقه كتاب مصور بالعنوان نفسه، والّذي حاز على جائزة "ألبير لوندرز" عام 2019، برسومات الفنان ليونارد كوهين الذي شارك أيضًا في هذا الفيلم. وما يميّز العمل الجديد هو دقة الموسيقى التصويرية والمؤثرات الصوتية التي تنقل المشاهد إلى شوارع بغداد، بين صفارات الإنذار وهمسات الخوف.
رسالة في زجاجة عطر
وراء كل هذه التفاصيل، يختبئ إهداء أبوي مؤثر: فرات العاني الابن الذي يحاول أن يفهم سبب نفي والده السياسي السابق أمير العاني منذ السبعينيات لأنّه كان معارضًا للنظام، ويسجل باسمه "أغنية حرية". الفيلم، في جوهره، ليس مجرد توثيق للحرب، بل هو محاولة لاستعادة العراق عبر روائحه وأصواته، تلك التي قد تتبخر كالعطر، لكنها تبقى عالقة في الذاكرة.